Jumat, 23 September 2011



وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا ) قال : من حمل شركا. الظلم هاهنا : الشرك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (112) }
يقول تعالى ذكره وتقدّست أسماؤه : ومن يعمل من صالحات الأعمال ، وذلك فيما قيل أداء فرائض الله التي فرضها على عباده( وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) يقول : وهو مصدّق بالله ، وأنه مجاز أهل طاعته وأهل معاصيه على معاصيهم( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا ) يقول : فلا يخاف من الله أن يظلمه ، فيحمل عليه سيئات غيره ، فيعاقبه عليها( وَلا هَضْمًا ) يقول : لا يخاف أن يهضمه حسناته ، فينقصه ثوابها.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) وإنما يقبل الله من العمل ما كان في إيمان.
حدثنا القاسم ، قال : قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيْج ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ) قال : زعموا أنها الفرائض.
* ذكر من قال ما قلنا : في معنى قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ).
حدثنا أبو كريب وسليمان بن عبد الجبار ، قالا ثنا ابن عطية ، عن إسرائيل ، عن سماك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : هضما : غصبا.
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية عن علي عن ابن عباس قال : ( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا يخاف ابن آدم يوم القيامة أن يظلم فيزاد عليه في سيئاته ، ولا يظلم فيهضم في حسناته.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني
(18/379)

أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) يقول : أنا قاهر لكم اليوم ، آخذكم بقوّتي وشدّتي ، وأنا قادر على قهركم وهضمكم ، فإنما بيني وبينكم العدل ، وذلك يوم القيامة.
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) أما هضما فهو لا يقهر الرجل الرجل بقوّته ، يقول الله يوم القيامة : لا آخذكم بقوّتي وشدتي ، ولكن العدل بيني وبينكم ، ولا ظلم عليكم.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله(هَضْما) قال : انتقاص شيء من حقّ عمله.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي ، قال : ثنا أبو أسامة ، عن مِسْعر ، قال : سمعت حبيب بن أبي ثابت يقول في قوله( وَلا هَضْمًا ) قال : الهضم : الانتقاص.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : ( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : ظلما أن يزاد في سيئاته ، ولا يهضم من حسناته.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا يخاف أن يظلم فلا يجزى بعمله ، ولا يخاف أن ينتقص من حقه فلا يوفى عمله.
حدثنا الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا سلام بن مسكين ، عن ميمون بن سياه ، عن الحسن ، في قول الله تعالى( فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا ) قال : لا ينتقص الله من حسناته شيئا ، ولا يحمل عليه ذنب مسيء ،
وأصل الهضم : النقص ، يقال : هضمني فلان حقي ، ومنه امرأة هضيم : أي ضامرة
(18/380)

وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113)
البطن ، ومنه قولهم : قد هضم الطعام : إذا ذهب ، وهضمت لك من حقك : أي حططتك.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) }
يقول تعالى ذكره : كما رغبنا أهل الإيمان في صالحات الأعمال ، بوعدناهم ما وعدناهم ، كذلك حذرنا بالوعيد أهل الكفر بالمقام على معاصينا ، وكفرهم بآياتنا فأنزلنا هذا القرآن عربيا ، إذ كانوا عَرَبا( وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ ) فبيناه : يقول : وخوّفناهم فيه بضروب من الوعيد( لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) يقول : كي يتقونا ، بتصريفنا ما صرّفنا فيه من الوعيد( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا) يقول : أو يحدث لهم هذا القرآن تذكرة ، فيعتبرون ويتعظون بفعلنا بالأمم التي كذبت الرسل قبلها ، وينزجرون عما هم عليه مقيمون من الكفر بالله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَكَذَلِكَ أَنزلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ) ما حذروا به من أمر الله وعقابه ، ووقائعه بالأمم قبلهم(أو يحدث لهم) القرآن(ذِكْرًا) : أي جدّا وورعا.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) قال : جدا وورعا ، وقد قال بعضهم في( أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ) أن معناه : أو يحدثُ لهم شرفا ، بإيمانهم به.
(18/381)

فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114) }
(18/381)

يقول تعالى ذكره : فارتفع الذي له العبادة من جميع خلقه ، الملك الذي قهر سلطانه كل ملك وجبار ، الحق عما يصفه به المشركون من خلقه( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) يقول جلّ ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : ولا تعجل يا محمد بالقرآن ، فتقرئه أصحابك ، أو تقرأه عليهم ، من قبل أن يوحى إليك بيان معانيه ، فعوتب على إكتابه وإملائه ما كان الله ينزله عليه من كتابه من كان يكتبه ذلك من قبل أن يبين له معانيه ، وقيل : لا تتله على أحد ، ولا تمله عليه حتى نبينه لك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبى نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) قال : لا تتله على أحد حتى نبينه لك.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قال : يقول : لا تتله على أحد حتى نتمه لك ، هكذا قال القاسم : حتى نتمه.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس. قوله( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) يعنى : لا تعجل حتى نبينه لك.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) : أي بيانه.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة( وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) قال : تبيانه.
حدثنا ابن المثنى وابن بشار ، قالا ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة( مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ ) من قبل أن يبين لك بيانه.
وقوله( وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ) يقول تعالى ذكره : وقل يا محمد : ربّ زدني علما إلى ما علمتني أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم.
(18/382)

وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115)
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) }
يقول تعالى ذكره : وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرّف لهم في هذا القرآن من الوعيد عهدي ، ويخالفوا أمري ، ويتركوا طاعتي ، ويتبعوا أمر عدّوهم إبليس ، ويطيعوه في خلاف أمري ، فقديما ما فعل ذلك أبوهم آدم( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ) يقول : ولقد وصينا آدم وقلنا له( إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ ) ووسوس إليه الشيطان فأطاعه ، وخالف أمري ، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ.
وعنى جلّ ثناؤه بقوله(مِنْ قَبْلُ) هؤلاء الذين أخبر أنه صرَّف لهم الوعيد في هذا القرآن ، وقوله(فَنَسِيَ) يقول : فترك عهدي.
كما حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ) يقول : فترك.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله(فَنَسِيَ) قال : ترك أمر ربه.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : قال له( يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) فقرأ حتى بلغ( لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) وقرأ حتى بلغ( وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) قال : فنسي ما عهد إليه في ذلك ، قال : وهذا عهد الله إليه ، قال : ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه الذي حسده ، وأبي أن يسجد له مع من سجد له إبليس ، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه ، وأمر ملائكته فسجدوا له.
حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا ثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن ، ومؤمل ، قالوا : ثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي.
وقوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) اختلف أهل التأويل في معنى العزم هاهنا ، فقال بعضهم : معناه الصبر.
(18/383)

* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : ( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) أي صبرا.
حدثنا محمد بن بشار ، قال : ثنا محمد بن جعفر ، قال : ثنا شعبة ، عن قتادة( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : صبرا.
حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني ، قال : ثنا أبو النضر ، قال : ثنا شعبة ، عن قَتادة ، مثله.
وقال آخرون : بل معناه : الحفظ ، قالوا : ومعناه : ولم نجد له حفظا لما عهدنا إليه.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا لما أمرته.
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : ثنا هاشم بن القاسم ، عن الأشجعي ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا.
حدثنا عباد بن محمد ، قال : ثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : حفظا لما أمرته به.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) يقول : لم نجد له حفظا.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) قال : العزم : المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه والتمسك به.
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) يقول : لم نجعل له عزما.
حدثني القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا الحجاج بن فضالة ، عن لقمان بن عامر ، عن أبي أمامة قال : لو أن أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق
(18/384)

وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آَدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117)
الله تعالى آدم إلى يوم الساعة ، ووضعت في كفة ميزان. ووضع حلم آدم في الكفة الأخرى ، لرجح حلمه بأحلامهم ، وقد قال الله تعالى( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ).
قال أبو جعفر : وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء ، يقال منه : عزم فلان على كذا : إذا اعتقد عليه ونواه ، ومن اعتقاد القلب : حفظ الشيء ، ومنه الصبر على الشيء ، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى ، وهو قوله( وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا ) فيكون تأويله : ولم نجد له عزم قلب ، على الوفاء لله بعهده ، ولا على حفظ ما عهد إليه.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) }
يقول تعالى ذكره معلما نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم ، ما كان من تضييع آدم عهده ، ومعرّفه بذلك أن ولده لن يعدوا أن يكونوا في ذلك على منهاجه ، إلا من عصمه الله منهم(و) اذكر يا محمد( وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى ) أن يسجد له( فَقُلْنَا يَاآدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ ) ولذلك من شنآنه لم يسجد لك ، وخالف أمري في ذلك وعصاني ، فلا تطيعاه فيما يأمركما به ، فيخرجكما بمعصيتكما ربكما ، وطاعتكما له( مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) يقول : فيكون عيشك من كدّ يدك ، فذلك شقاؤه الذي حذّره ربه.
كما حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، قال : أهبط إلى آدم ثور أحمر ، فكان يحرث عليه ، ويمسح العرق من جبينه ، فهو الذي قال الله تعالى ذكره( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ) فكان ذلك شقاؤه ، وقال تعالى ذكره(فَتَشْقَى) ولم يقل : فتشقيا ، وقد قال : ( فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا ) لأن
(18/385)

إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آَدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120)
ابتداء الخطاب من الله كان لآدم عليه السلام ، فكان في إعلامه العقوبة على معصيته إياه ، فيما نهاه عنه من أكل الشجرة الكفاية من ذكر المرأة ، إذ كان معلوما أن حكمها في ذلك حكمه. كما قال( عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ) اجتزئ بمعرفة السامعين معناه من ذكر فعل صاحبه.
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (120) }
يقول تعالى ذكره ، مخبرا عن قيله لآدم حين أسكنه الجنة(إنَّ لَك) يا آدم( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) و " أن " في قوله( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) في موضع نصب بإنَّ التي في قوله : (إنَّ لَك).
وقوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا ) اختلفت القرّاء في قراءتها ، فقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة والكوفة بالكسر : وإنك ، على العطف على قوله(إنَّ لَك) ، وقرأ ذلك بعض قرّاء المدينة وعامة قرّاء الكوفة والبصرة وأنك ، بفتح ألفها عطفا بها على " أن " التي في قوله( أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى ) ، ووجَّهوا تأويل ذلك إلى أن لك هذا وهذا ، فهذه القراءة أعجب القراءتين إليّ ، لأن الله تبارك وتعالى ذكره وعد ذلك آدم حين أسكنه الجنة ، فكون ذلك بأن يكون عطفا على أن لا تجوع أولى من أن يكون خبر مبتدأ ، وإن كان الآخر غير بعيد من الصواب ، وعني بقوله( لا تَظْمَأُ فِيهَا ) لا تعطش في الجنة ما دمت فيها( وَلا تَضْحَى ) ، يقول : لا تظهر للشمس فيؤذيك حرّها ، كما قال ابن أبي ربيعة :
رأتْ رَجُلا أمَّا إذا الشَّمْسُ عارَضَتْ... فَيَضْحَى وأمَّا بالعشِيّ فَيَخْصَرُ (1)
__________
(1) البيت لعمر بن أبي ربيعة القرشي المخزومي . وقد أورده صاحب اللسان في ( ضحا ) ولم ينسبه . قال : وضحا الرجل ضحوا ( على فعل ) وضحوا ( على فعول ) وضحيا : برز للشمس وضحى بكسر الحاء يضحى في اللغتين معه ضحوا وضحيا : أصابته الشمس ، قال الله تعالى : ( وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) قال : لا يؤذيك حر الشمس . وقال الفراء : لا تضحى : لا تصيبك شمس مؤذية . قال : وفي بعض التفسير : ولا تضحى : لا تعرق . قال الأزهري : والأول أشبه بالصواب ، وأنشد : " رأت رجلا . . . البيت " . أه . وقوله " يخصر " : هو من الخصر بالتحريك ، والبرد يجده الإنسان في أطرافه .
(18/386)

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني علي ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) يقول : لا يصيبك فيها عطش ولا حرّ.
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) يقول : لا يصيبك حرّ ولا أذى.
حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي ، قال : ثنا عبد الرحمن بن شريك ، قال : ثني أبي ، عن خصيف عن سعيد بن جُبير( لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى ) قال : لا تصيبك الشمس.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( وَلا تَضْحَى ) قال : لا تصيبك الشمس ، وقوله( فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ ) يقول : فألقى إلى آدم الشيطان وحدّثه( قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ ) يقول : قال له : هل أدلك على شجرة إن أكلت منها خلدت فلم تمت ، وملكت ملكا لا ينقضي فيبلى.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السديّ( قَالَ يَاآدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) إن أكلت منها كنت مَلكا مثل الله( أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ) فلا تموتان أبدا.
(18/387)

فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آَدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
القول في تأويل قوله تعالى : { فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122) }
يقول تعالى ذكره : فأكل آدم وحوّاء من الشجرة التي نُهيا عن الأكل منها ، وأطاعا أمر إبليس ، وخالفا أمر ربهما( فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا ) يقول : فانكشفت لهما عوراتهما ، وكانت مستورة عن أعينهما.
كما حدثني موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي ، قال : إنما أراد ، يعني إبليس بقوله( هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى ) ليبدي لهما ما توارى عنهما من سوآتهما ، بهتك لباسهما ، وكان قد علم أن لهما سوأة لما كان يقرأ من كتب الملائكة ، ولم يكن آدم يعلم ذلك ، وكان لباسهما الظفر ، فأبى آدم أن يأكل منها ، فتقدمت حوّاء ، فأكلت ثم قالت : يا آدم كل ، فإني قد أكلت ، فلم يضرّني ، فلما أكل آدم بدت سوآتهما.
وقوله( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : أقبلا يشدان عليهما من ورق الجنة.
كما حدثنا موسى ، قال : ثنا عمرو ، قال : ثنا أسباط ، عن السدي( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : أقبلا يغطيان عليهما بورق التين.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ ) يقول : يوصلان عليهما من ورق الجنة.
وقوله( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) يقول : وخالف أمر ربه ، فتعدّى إلى ما لم يكن له أن يتعدّى إليه ، من الأكل من الشجرة التي نهاه عن الأكل منها ، وقوله( ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ) يقول : اصطفاه ربه من بعد معصيته إياه فرزقه الرجوع إلى ما يرضى عنه ، والعمل بطاعته ، وذلك هو كانت توبته التي تابها عليه ، وقوله(وَهَدَى) يقول : وهداه للتوبة ، فوفَّقه لها.
(18/388)

قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (123) }
يقول تعالى ذكره : قال الله تعالى لآدم وحوّاء( اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا إِلَى الأرْضِ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ) يقول : أنتما عدوّ إبليس وذرّيته ، وإبليس عدوّكما وعدوّ ذرّيتكما.
وقوله( فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى ) يقول : فإن يأتكم يا آدم وحواء وإبليس مني هدى : يقول : بيان لسبيلي ، وما أختاره لخلقي من دين( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ ) يقول : فمن اتبع بياني ذلك وعمل به ، ولم يزغ منه( فَلا يَضِلُّ ) يقول : فلا يزول عن محجة الحق ، ولكنه يرشد في الدنيا ويهتدي(ولا يَشْقَى) في الآخرة بعقاب الله ، لأن الله يدخله الجنة ، وينجيه من عذابه.
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني الحسين بن يزيد الطحان ، قال : ثنا أبو خالد الأحمر ، عن عمرو بن قيس الملائي ، عن عكرمة عن ابن عباس ، قال : تضمن الله لمن قرأ القرآن ، واتبع ما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ، ثم تلا هذه الآية( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ).
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : ثنا حكام الرازيّ ، عن أيوب بن موسى ، عن مرو ثنا الملائي عن ابن عباس أنه قال : إن الله قد ضمن.... فذكر نحوه.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن أيوب بن يسار أبي عبد الرحمن ، عن عمرو بن قيس ، عن رجل عن ابن عباس ، بنحوه.
حدثنا عليّ بن سهل الرملي ، قال : ثنا أحمد بن محمد النسائي ، عن أبي سلمة ، عن عطاء ، عن سعيد بن جُبير ، قال : قال ابن عباس : من قرأ القرآن واتبع ما فيه عصمه الله من الضلالة ، ووقاه ، أظنه أنه قال : من هول يوم القيامة ،
(18/389)


وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125)
وذلك أنه قال( فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى ) في الآخرة.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) }
(18/390)

قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126) }
يقول تعالى ذكره( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي ) الذي أذكره به فتولى عنه ولم يقبله ولم يستجب له ، ولم يتعظ به فينزجر عما هو عليه مقيم من خلافه أمر ربه( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : فإن له معيشة ضيقة ، والضنك من المنازل والأماكن والمعايش : الشديد ، يقال : هذا منزل ضنك : إذا كان ضيقا ، وعيش ضنك : الذكر والأنثى والواحد والاثنان والجمع بلفظ واحد; ومنه قول عنترة :
وإنْ نزلُوا بضَنْك أنزل (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : الشقاء.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن
__________
(1) هذا جزء من عجز بيت لعنترة بن عمرو بن شداد العبسي ( مختار الشعر الجاهلي طبعة الحلبي ، شرح مصطفى السقا ، ص 388 ) والبيت بتمامه هو : إنْ يُلْحَقُوا أكْرُرْ وإنْ يُسْتَلْحَمُوا ... أشْدُدْ وإنْ يُلْفَوا بضَنْكٍ أنْزِل
وفي ( اللسان : ضنك ) : الضنك : الضيق من كل شيء ، الذكر والأنثى فيه سواء . ومعيشة ضنك : ضيقة . وفي التزيل : ( فإن له معيشة ضنكا) أي غير حلال .
(18/390)

مجاهد ، قوله(ضَنْكا) قال : ضيقة.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قَتادة ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : الضنك : الضيق.
حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزّة ، عن مجاهد ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : ضيقة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله.
واختلف أهل التأويل في الموضع الذي جعل الله لهؤلاء المعرضين عن ذكره العيشة الضنك ، والحال التي جعلهم فيها ، فقال بعضهم : جعل ذلك لهم في الآخرة في جهنم ، وذلك أنهم جعل طعامهم فيها الضريع والزقوم.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو بن عليّ بن مقدم ، قال : ثنا يحيى بن سعيد ، عن عوف ، عن الحسن ، في قوله : ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : في جهنم.
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) فقرأ حتى بلغ( وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ ) قال : هؤلاء أهل الكفر ، قال : ومعيشة ضنكا في النار شوك من نار وزقوم وغسلين ، والضريع : شوك من نار ، وليس في القبر ولا في الدنيا معيشة ، ما المعيشة والحياة إلا في الآخرة ، وقرأ قول الله عزّ وجلّ( يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي ) قال : لمعيشتي ، قال : والغسلين والزقوم : شيء لا يعرفه أهل الدنيا.
حدثنا الحسن ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن معمر ، عن قتادة( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : في النار.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : فإن له معيشة في الدنيا حراما قال : ووصف الله جلّ وعزّ معيشتهم بالضنك ، لأن الحرام وإن اتسع فهو ضنك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين بن واقد ، عن يزيد ، عن عكرمة في قوله : ( مَعِيشَةً ضَنْكًا )
(18/391)

قال : هي المعيشة التي أوسع الله عليه من الحرام.
حدثني داود بن سليمان بن يزيد المكتب من أهل البصرة ، قال : ثنا عمرو بن جرير البجلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم في قول الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : رزقا في معصيته.
حدثني عبد الأعلى بن واصل ، قال : ثنا يعلى بن عبيد ، قال : ثنا أبو بسطام ، عن الضحاك( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : الكسب الخبيث.
حدثني محمد بن إسماعيل الصراري ، قال : ثنا محمد بن سوار ، قال : ثنا أبو اليقظان عمار بن محمد ، عن هارون بن محمد التيمي ، عن الضحاك ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : العمل الخبيث ، والرزق السيئ.
وقال آخرون ممن قال عنى أن لهؤلاء القوم المعيشة الضنك في الدنيا ، إنما قيل لها ضنك وإن كانت واسعة ، لأنهم ينفقون ما ينفقون من أموالهم على تكذيب منهم بالخلف من الله ، وإياس من فضل الله ، وسوء ظنّ منهم بربهم ، فتشتدّ لذلك عليهم معيشتهم وتضيق.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله( وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) يقول : كلّ مال أعطيته عبدا من عبادي قلّ أو كثر ، لا يتقيني فيه ، لا خير فيه ، وهو الضنك في المعيشة. ويقال : إن قوما ضُلالا أعرضوا عن الحق وكانوا أولي سعة من الدنيا مكثرين ، فكانت معيشتهم ضنكا ، وذلك أنهم كانوا يرون أن الله عزّ وجل ليس بمخلف لهم معايشهم من سوء ظنهم بالله ، والتكذيب به ، فإذا كان العبد يكذّب بالله ، ويسيء الظنّ به ، اشتدّت عليه معيشته ، فذلك الضنك.
وقال آخرون : بل عنى بذلك : أن ذلك لهم في البرزخ ، وهو عذاب القبر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني يزيد بن مخلد الواسطي ، قال : ثنا خالد بن عبد الله ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ ، قال في قول الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب
(18/392)

القبر.
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : ثنا بشر بن المفضل ، قال : ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن أبي حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخُدري ، قال : إن المعيشة الضنك ، التي قال الله : عذاب القبر.
حدثني حوثرة بن محمد المنقري ، قال : ثنا سفيان ، عن أبي حازم ، عن أبي سلمة ، عن أبي سعيد الخُدريّ( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أبي وشعيب بن الليث ، عن الليث ، قال : ثنا خالد بن زيد ، عن ابن أبي هلال ، عن أبي حازم ، عن أبي سعيد ، أنه كان يقول : المعيشة الضنك : عذاب القبر ، إنه يسلط على الكافر في قبره تسعة وتسعون تنينا تنهشه وتخدش لحمه حتى يُبعث ، وكان يقال : لو أن تنينا منها نفخ الأرض لم تنبت زرعا.
حدثنا مجاهد بن موسى ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا محمد بن عمرو ، عن أبي سلمة ، عن أبي هريرة ، قال : يطبق على الكافر قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، وهي المعيشة الضنك التي قال الله( مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ).
حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا جابر بن نوح ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح والسديّ ، في قوله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثني عبد الرحمن بن الأسود ، قال : ثنا محمد بن ربيعة ، قال : ثنا أبو عُمَيس ، عن عبد الله بن مخارق عن أبيه ، عن عبد الله ، في قوله( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
حدثني عبد الرحيم البرقيّ ، قال : ثنا ابن أبي مَريم ، قال : ثنا محمد بن جعفر وابن أبي حازم ، قالا ثنا أبو حازم ، عن النعمان بن أبي عياش ، عن أبي سعيد الخدريّ( مَعِيشَةً ضَنْكًا ) قال : عذاب القبر.
(18/393)

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال : هو عذاب القبر الذي حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني عمرو بن الحارث ، عن درّاج ، عن ابن حُجَيرة عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أتَدْرُونَ فِيمَ أُنزلتْ هَذِهِ الآيَة( فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) أتَدْرُونَ مَا المعيشَةُ الضَّنْكُ ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : عَذَابُ الكافرِ فِي قَبْرِهِ ، والَّذِي نَفْسِي بَيَدِهِ أنَّه لَيُسَلَّطُ عَلَيْهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّينا ، أتَدْرُونَ ما التِّنِينُ : تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيَّه ، لكلّ حَيَّه سَبْعَةُ رُءُوسٍ ، يَنْفُخُونَ فِي جِسْمِهِ وَيَلْسَعُونَهُ وَيخْدِشُونَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ " .
وإن الله تبارك وتعالى اتبع ذلك بقوله : ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) فكان معلوما بذلك أن المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة ، لأن ذلك لو كان في الآخرة لم يكن لقوله : ( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) معنى مفهوم ، لأن ذلك إن لم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الآخرة ، حتى يكون الذي في الآخرة أشدّ منه ، بطل معنى قوله( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) ، فإذ كان ذلك كذلك ، فلا تخلو تلك المعيشة الضنك التي جعلها الله لهم من أن تكون لهم في حياتهم الدنيا ، أو في قبورهم قبل البعث ، إذ كان لا وجه لأن تكون في الآخرة لما قد بيَّنا ، فإن كانت لهم في حياتهم الدنيا ، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفار ، فإن معيشته فيها ضنك ، وفي وجودنا كثيرا منهم أوسع معيشة من كثير من المقبلين على ذكر الله تبارك وتعالى ، القائلين له المؤمنين في ذلك ، ما يدلّ على أن ذلك ليس كذلك ، وإذ خلا القول في ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث ، وهو أن ذلك في البرزخ.
وقوله( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) اختلف أهل التأويل في صفة العمى الذي ذكر الله في هذه الآية ، أنه يبعث هؤلاء الكفار يوم القيامة به ، فقال بعضهم : ذلك عمى عن الحجة ، لا عمى عن البصر.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال : ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ،
(18/394)

في قوله : ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) قال : ليس له حجة.
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى ) قال : عن الحجة.
حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد ، مثله ، وقيل : يحشر أعمى البصر.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك ما قال الله تعالى ذكره ، وهو أنه يحشر أعمى عن الحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه ، فعمّ ولم يخصص.
وقوله( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم في ذلك ، ما حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرزاق ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ) لا حجة لي.
وقوله( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : معناه : وقد كنت بصيرا بحجتي.
ذكر من قال ذلك : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) قال : عالما بحجتي.
وقال آخرون. بل معناه : وقد كنت ذا بصر أبصر به الأشياء.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد( وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) في الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) قال : كان بعيد البصر ، قصير النظر ، أعمى عن الحقّ.
قال أبو جعفر : والصواب من القول في ذلك عندنا ، أن الله عزّ شأنه وجلّ ثناؤه ، عمّ بالخبر عنه بوصفه نفسه بالبصر ، ولم يخصص منه معنى دون
(18/395)

معنى ، فذلك على ما عمه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية ، قال : ربّ لم حشرتني أعمى عن حجتي ورؤية الأشياء ، وقد كنت في الدنيا ذا بصر بذلك كله.
فإن قال قائل : وكيف قال هذا لربه( لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى ) مع معاينته عظيم سلطانه ، أجهل في ذلك الموقف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء ، أم ما وجه ذلك ؟ قيل : إن ذلك منه مسألة لربه يعرّفه الجرم الذي استحق به ذلك ، إذ كان قد جهله ، وظنّ أن لا جرم له ، استحق ذلك به منه ، فقال : ربّ لأيّ ذنب ولأيّ جرم حشرتني أعمى ، وقد كنت من قبل في الدنيا بصيرا وأنت لا تعاقب أحدا إلا بدون ما يستحق منك من العقاب.
وقوله( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) يقول تعالى ذكره ، قال الله حينئذ للقائل له : ( لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا ) فعلت ذلك بك ، فحشرتك أعمى كما أتتك آياتي ، وهي حججه وأدلته وبيانه الذي بيَّنه في كتابه ، فنسيتها : يقول : فتركتها وأعرضت عنها ، ولم تؤمن بها ، ولم تعمل. وعنى بقوله( كَذَلِكَ أَتَتْكَ ) هكذا أتتك. وقوله : ( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) يقول : فكما نسيت آياتنا في الدنيا ، فتركتها وأعرضت عنها ، فكذلك اليوم ننساك ، فنتركك في النار.
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) فقال بعضهم بمثل الذي قلنا في ذلك.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي ، قال ، ثنا محمد بن عبيد ، قال : ثنا سفيان الثوري ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، في قوله( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال : في النار.
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله( كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ) قال : فتركتها( وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) وكذلك اليوم تترك في النار.
ورُوي عن قتادة في ذلك ما حدثني بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى ) قال : نسي من الخير ، ولم ينس من الشرّ. وهذا القول الذي قاله قَتادة قريب المعنى مما
(18/396)

وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128)
قاله أبو صالح ومجاهد ، لأن تركه إياهم في النار أعظم الشرّ لهم.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127) }
يقول تعالى ذكره : وهكذا نجزي : أي نثيب من أسرف فعصى ربه ، ولم يؤمن برسله وكتبه ، فنجعل له معيشة ضنكا في البرزخ كما قد بيَّنا قبل( وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ) يقول جلّ ثناؤه : ولعذاب في الآخرة أشدّ لهم مما وعدتهم في القبر من المعيشة الضنك وأبقى يقول : وأدوم منها ، لأنه إلى غير أمد ولا نهاية.
القول في تأويل قوله تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى (128) }
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : أفلم يهد لقومك المشركين بالله ، ومعنى يهد : يبين. يقول : أفلم يبين لهم كثرة ما أهلكنا قبلهم من الأمم التي سلكت قبلها التي يمشون في مساكنهم ودورهم ، ويرون آثار عقوباتنا التي أحللناها بهم سوء مغبة ما هم عليه مقيمون من الكفر بآياتنا ، ويتعظوا بهم ، ويعتبروا ، وينيبوا إلى الإذعان ، ويؤمنوا بالله ورسوله ، خوفا أن يصيبهم بكفرهم بالله مثل ما أصابهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ) لأن قريشا كانت تتجر إلى الشأم ، فتمر بمساكن عاد وثمود ومن أشبههم ، فترى آثار وقائع الله تعالى بهم ، فلذلك قال لهم : أفلم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله لهم ، وهم على مثل فعلهم مقيمون ، وكان الفرّاء يقول : لا يجوز
(18/397)

وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129)
في كم في هذا الموضع أن يكون إلا نصبا بأهلكنا ، وكان يقول : وهو وإن لم يكن إلا نصبا ، فإن جملة الكلام رفع بقوله( يَهْدِ لَهُمْ ) ويقول : ذلك مثل قول القائل : قد تبين لي أقام عمرو أم زيد في الاستفهام ، وكقوله( سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ ) ويزعم أن فيه شيئا يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام ، قال : ولو قلت : سواء عليكم صمتكم ودعاؤكم تبين ذلك الرفع الذي في الجملة ، وليس الذي قال الفرّاء من ذلك ، كما قال : لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لم تجعل في هذا الموضع للاستفهام ، بل هي واقعة موقع الأسماء الموصوفة ، ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو : أفلم يبين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التي يمشون في مساكنهم ، أو أفلم تهدهم القرون الهالكة ، وقد ذُكر أن ذلك في قراءة عبد الله( أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مَنْ أهْلَكْنا) فكم واقعة موقع من في قراءة عبد الله ، هي في موضع رفع بقوله( يَهْدِ لَهُمْ ) وهو أظهر وجوهه ، وأصحّ معانيه ، وإن كان الذي قاله وجه ومذهب على بعد.
وقوله( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) يقول تعالى ذكره : إن فيما يعاين هؤلاء ويرون من آثار وقائعنا بالأمم المكذّبة رسلها قبلهم ، وحلول مثلاتنا بهم لكفرهم بالله(لآيات) يقول : لدلالات وعبرا وعظات(لأولي النهى) يعني : لأهل الحجى والعقول ، ومن ينهاه عقله وفهمه ودينه عن مواقعة ما يضره.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله( لأولِي النُّهَى ) يقول : التقى.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة( إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأولِي النُّهَى ) أهل الورع.
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ
(18/398)

فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آَنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130) }
يقول تعالى ذكره( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ ) يا محمد أن كلّ من قضى له أجلا فإنه لا يخترمه قبل بلوغه أجله( وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) يقول : ووقت مسمى عند ربك سماه لهم في أمّ الكتاب وخطه فيه ، هم بالغوه ومستوفوه( لَكَانَ لِزَامًا ) يقول : للازمهم الهلاك عاجلا وهو مصدر من قول القائل : لازم فلان فلانا يلازمه ملازمة ولزاما : إذا لم يفارقه ، وقدّم قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) قبل قوله( أَجَلٍ مُسَمًّى ) ومعنى الكلام : ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما ، فاصبر على ما يقولون.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ، وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) الأجل المسمى : الدنيا.
حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) وهذه من مقاديم الكلام ، يقول : لولا كلمة سبقت من ربك إلى (1) .
أجل مسمى كان لزاما ، والأجل المسمى ، الساعة ، لأن الله تعالى يقول( بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ ).
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله( وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى ) قال : هذا مقدّم ومؤخر ، ولولا كلمة سبقت من ربك وأجل مسمى لكان لزاما.
واختلف أهل التأويل في معنى قوله( لَكَانَ لِزَامًا ) فقال بعضهم : معناه : لكان موتا.
__________
(1) لعله يريد : لولا أن الله سبقت كلمته بتأخير عذابهم إلى أجل مسمى . ويجوز أن تكون " إلى " وضعت في موضع واو العطف سهوًا من الناسخ .
(18/399)